من لندن إلى واشنطن.. كيف يقيَّد حق الاحتجاج في الديمقراطيات الغربية؟
من لندن إلى واشنطن.. كيف يقيَّد حق الاحتجاج في الديمقراطيات الغربية؟
في وقتٍ تشهد فيه الديمقراطيات الغربية تحديات أمنية وسياسية، يرى تقرير صادر عن الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان أن الحق في الاحتجاج يتعرض لهجوم مستمر وممنهج، ولا سيما في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، حيث تُستخدم تشريعات مكافحة الإرهاب ومعاداة السامية أحياناً أدوات لتقييد حرية التعبير والتظاهر.
التقرير الذي اعتمد على مصادر مفتوحة وشهادات مباشرة وتقارير هيئات دولية خلال الفترة من أكتوبر 2023 إلى سبتمبر 2025، يرصد سياسات رسمية وقوانين جديدة مع مقترحات تشريعية يُخشى أن تُستخدم في قمع الحركات المدنية والمجتمعية، ولا سيما تلك المؤيدة للفلسطينيين وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
الحريات الأكاديمية كانت أيضاً ضمن دائرة الخطر التي حدّدها التقرير، حيث يتعرض أساتذة وطلاب لرقابة أو عقوبات بسبب آرائهم السياسية أو دعمهم لقضايا معينة، وفي الولايات المتحدة، مثلاً، تمت ملاحقة متظاهرين بتهم متعلقة بالتحريض أو التجمّع غير المصرح به، في حين حُظر في فرنسا احتجاج في بعض المدن أو حُلت جمعيات ناشطة، وفي ألمانيا واجهت شعارات وشعوب وملصقات داعمة لفلسطين الانتقاء القانوني والشرطي بحجة أنها معاداة للسامية، ما دفع مجتمعات بأكملها للشعور بأن التظاهر بات خطراً ممنهجاً بدلاً من حقٍ دستوري محمي.
الإحصاءات والرصد
أظهرت بيانات رسمية من المملكة المتحدة أن جرائم الكراهية الدينية ارتفعت إلى أعلى مستوياتها في إنجلترا وويلز خلال الفترة المنتهية في مارس 2025، حيث سجلت الشرطة ما يزيد على سبعة آلاف حادثة من هذا النوع، بارتفاع ثلاث بالمئة مقارنة بالعام السابق، من بين هذه الجرائم، ارتفع عدد الجرائم المعادية للمسلمين بنسبة نحو تسعة عشر بالمئة، في حين انخفضت الجرائم المعادية لليهود بحسب بعض التقارير باستثناء العاصمة لندن.
مؤسسة “Tell MAMA” التي ترصد جرائم الإسلاموفوبيا في المملكة المتحدة سجلت ما يزيد على 6,300 بلاغًا عن حوادث الكراهية ضد المسلمين في عام 2024، مقارنة بأرقام أقل بكثير في السنوات السابقة، خصوصًا في المناطق التي شهدت احتجاجات مؤيدة لفلسطين.
وفيما يتعلّق بالقيود التشريعية، أعادت الحكومة البريطانية إحياء قوانين مثل قانون الإرهاب لعام 2000، ووضع مقترحات لتعديل قوانين النظام العام وقوانين الشرطة، لتمنح صلاحيات كبرى للشرطة في تنظيم الاحتجاجات، وتقييد التعبير والتظاهر الذي يعدّونه “متكررًا أو مهددًا للنظام العام”، وفي فرنسا وألمانيا، وثّقت منظمات حقوقية حالات حظر مسيرات، أو استخدام الشرطة لقوة مفرطة، أو تقييد الرموز والشعارات التي تُستخدم في التظاهر، بحجة مكافحة الكراهية أو حفظ الأمن.
التقرير الصادر عن الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان يبيّن كيف استخدمت المصطلحات مثل “معاداة السامية العنيفة” أو “تحريض الكراهية” مبرراً لتقييد احتجاجات لا تعبّر بالضرورة عن خطاب عدائي رسمي، ما يؤدي إلى استهداف المسلمين أو الجماعات العرقية على نحو غير متناسب.
الأطر القانونية الدولية والدستورية
حرية التظاهر تُعدّ من الحقوق الأساسية المُعلنة في المواثيق الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهذه الأطر تلزم الدول بحماية الحق في التجمع السلمي والتعبير، شرط أن تكون أي قيود قانونية مبرّرة وضرورية، وضمن حدود ضيقة ومناسبة لضمان الأمن العام أو السلامة، وليس بهدف قمع الأراء المخالفة أو إسكات المعارضة.
في المملكة المتحدة، التعديلات في قوانين مكافحة الإرهاب وقوانين النظام العام تواجه اختبارات دستورية، خاصة مع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي قد تنظر في شكاوى تتعلّق بخرق حرية التعبير أو حرية التجمع. مفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا كتب مؤخرًا إلى وزيرة الداخلية البريطانية طالبًا مراجعة شاملة للتشريعات المتعلقة بالاحتجاجات، محذّرًا من أن التشريعات المصممة لمكافحة الإرهاب ينبغي ألا تُستخدم سيفاً يهدد الحقوق والحريات الأساسية.
في الولايات المتحدة، تنص التعديلات الدستورية والتقاليد القضائية على حماية شديدة للحق في التظاهر والتعبير، لكن تزايد استخدام قوانين أمنية في الولايات أو المقاطعات المحلية لتقييد هذا الحق، بفرض شروط على المسيرات أو حتى حظرها أحيانًا تحت ذرائع أمنية، يثير قلق المنظمات الحقوقية بشأن الانزياح نحو رقابة رسمية.
ردود الفعل الحقوقية والمؤسساتية
الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان (FIDH) أصدر تقريره مطالبًا الحكومات المعنية بإلغاء أو تعديل القوانين التي تُستخدم لتمييع الحق في الاحتجاج، وتحذيراً من أن التطبيع المتزايد للتدابير الاستثنائية في القوانين الأمنية قد يؤدي إلى تآكل الحرية الدائمة، لا المؤقتة. وصرّح مراقبون في التقرير أن احتجاجات التضامن مع فلسطين كانت اختبارًا عمليًا لكيفية تعامل الحكومات الغربية مع الضغط الشعبي، وأن الاستجابة كانت في كثير من الحالات أمنية أو قانونية للحدّ من المساحات التي يمكن أن يُعبّر فيها المواطنون بحرية.
منظمات مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية كذلك أدانت الإجراءات التي حُظرت بها مسيرات أو أُزيلت تصاريح، أو اعتُقلت بها مجموعات من المتظاهرين السلميين، أو خوّلت الشرطة صلاحيات كبرى للرقابة والمراقبة، وقد دعا هؤلاء الحقوقيون إلى ضمان حماية المتظاهرين السلميين، وضرورة شفافية السلطات في إصدار تصاريح الاحتجاج، وإشراف قضائي مستقل على استخدام القوة أثناء التظاهرات.
الدول الأممية ومنظمات مثل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومقررة حقوق الإنسان المعنية بحرية الرأي والتعبير، أكدت أن الحق في الاحتجاج يجب ألا يُستخدم أبدًا ميداناً للسياسات الأمنية فقط، وأنه يجب الحفاظ على التوازن بين حماية الأمن العام وحماية حرية التعبير والتجمّع السلمي، وفق المعايير الدولية.
تداعيات إنسانية واجتماعية عميقة
مع تزايد القوانين التي تقيّد التظاهر وإجراءات الشرطة التي تستخدم القوة في بعض الحالات، يشعر المواطنون بأن التعبير السلمي أصبح مخاطرة، ويزداد التنميط العرقي والديني عند بعض الجماعات، خصوصًا المسلمين والأقليات العرقية، إذ يُنظر إلى مشاركتهم في مظاهرات مناصرة للفلسطينيين باعتبارها تهديدًا أمنيًا، ما يُفاقم الخوف الاجتماعي والعزلة، وتظهر البيانات الرسمية في المملكة المتحدة ارتفاعًا في جرائم الكراهية ضد المسلمين بما يقارب الخُمس، وارتفاع الاعتداءات العنيفة خلال فترات الاحتجاج أو ما بعدها، في ظل شعور بأن الحماية القانونية لا تكفي أو أنها تُطبق بانتقائية.
بالإضافة لذلك، فالصحفيون والمجتمع المدني يعانون من ضغوط غير مباشرة، سواء من خلال التشديد على التصاريح أو التهديد القانوني أو التمثيل الإعلامي الذي يصوّر المتظاهرين "متطرفين" أو "ثوريين"، وهذا الوضع يثني بعض المواطنين عن المشاركة في الاحتجاجات خشية أن تُسجَّل لهم عواقب قانونية أو مهنية.
ومع دخول القوانين الجديدة حيّز التنفيذ، يُتوقع أن تشهد الاحتجاجات سلمية الطابع مزيدًا من العرقلة في الحصول على تصاريح، ومنعًا من الوصول إلى أماكن الاحتجاج، وربما فرض قيود على الرموز والشعارات وحتى التغطية الصحفية، الأمر الذي سيؤثر في القدرة المجتمعية للضغط السياسي وتحريك السياسات العامة، ويجعل التعبير المدني أقل تأثيرًا وأقل إمكانية للوصول إلى متخذي القرار.
تراكمات تشريعية وسياق أمني
من المهم النظر إلى أن هذا الهجوم على الحق في الاحتجاج ليس مفاجئًا، بل هو تتويج لعدة سنوات من الضغط التشريعي والأمني، فمنذ أحداث هجمات 11 سبتمبر عام 2001، وسّعت الولايات المتحدة تشريعات مكافحة الإرهاب بشكل كبير، ما أثّر في الحقوق المدنية والتجمعات السلمية.
في المملكة المتحدة، شهدت السنوات الأخيرة تعديلات متكرّرة على القوانين الأمنية، مثل قانون الجريمة والمخدرات والمحاكم لعام 2022، وقوانين النظام العام 2023 التي منحت الشرطة صلاحيات أوسع للحد من الاحتجاجات المتكررة، أو تلك التي تُعد مزعجة للمجتمعات المحلية، أو التي تتضمّن رموزًا سياسية مثيرة للجدل، وهذا التراكم التشريعي خلق مناخًا حيث القوانين الأمنية تُستخدم ليس فقط ضد العنف بل ضد التعبير السلمي أيضاً.
في فرنسا وألمانيا تشريعات مكافحة الإرهاب، ومعاداة المعاداة للسامية، استُخدمت أحيانًا لتبرير منع مظاهرات أو فرض قيود على الكلمة الجامعية أو فضاء التعبير العام، خصوصًا بعد أحداث عنف أو هجمات إرهابية، وهذه الدول التي لها تجارب مؤلمة في التطرف والاضطهاد التاريخي، تجد نفسها في مواجهة انتقادات تقول إن الأمانة التاريخية لها تُستخدم مسوّغاً لفرض رقابة جديدة على الحريات.
أي مستقبل لحرية الاحتجاج؟
الوضع الراهن في الدول الغربية يشكّل اختبارًا لديمقراطيات تعلن التزامًا بحقوق الإنسان وحرية التعبير، لكنها تواجه اليوم تناقضًا بين الأمان السياسي وبين الأمان الحاضر للحقوق المدنية وتعطيل حرية الاحتجاج، خاصة عندما يُقمع التعبير السلمي، لا يؤدي فقط إلى خنق صوت المتظاهرين، بل إلى تقويض الثقة بين المجتمع والحكومة، وزيادة الشعور بالظلم، وربما تشجيع التطرف حين يشعر المواطن ألّا وسيلة أخرى للتعبير عن غضبه.
تزول الفروق بين الحكومات التي تعد نفسها ليبرالية وتلك التي تسعى لفرض ضمانات أمنية صارمة عندما تُستخدم القوانين الأمنية أداة لفرض صمت الاختلاف. إن الحريات الأساسية، كالاحتجاج والتجمع السلمي، إن أُخذت الآن، قد لا يُستعاد بعضها بسهولة.
يبقى الأمل معلقًا على تحرك المنظمات الحقوقية والقضائية، ومراقبة التشريعات، وتفعيل آليات المساءلة القانونية، ودور المجتمع المدني والإعلام في فضح التجاوزات، وكذلك إدراك المجتمع أن حرية الاحتجاج ليست ترفًا أو خيارًا في الديمقراطية، بل أحد الأعمدة التي تقوم عليها.